1
منح الرحمن فى شهر القرآن

مقال لفضيلة الشيخ /  د عبد الله شاكر الجنيدى- الرئيس العام لأنصار السنة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين وآل بيته الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعدُ:
فإن شهر رمضان من الأشهر التي لها مكانة عظيمة ومنزلة في الإسلام رفيعة، فهو منحة ربانية وعطية إلهية، تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلَّق فيه أبواب النيران، وتُصفد الشياطين، وهو شهر الخير والمغفرة والتوبة والطاعة، والانتصارات والفتوحات والبركات، وقد فضّله الله على سائر الشهور، ومنحه من الخير الفضيل ما لم يمنح غيره من الشهور، وقد جعل الله لأهل الإيمان في الدنيا مواطن يغتنم فيها العبد المؤمن الأجر، ويستزيد فيها من فعل الخير، ويحسن له فيها التعرُّض للفضل، وهذا رحمة من الله وفضل؛ إذ لم يدع عبده المؤمن للشهوات والشيطان على مدار العام.
فيا عبد الله، يا من أبقاك الله ومدَّ في عمرك إلى أن دخل عليك هذا الشهر، اغتنم الفرصة والأجر، تنل من الله الخير، وقد أخرج الترمذي في سننه عن أبي بكرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله، أيُّ الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله». قال: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله» [الترمذي 2330 وصححه الألباني].
وفي الترمذي أيضًا بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي قال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدّ نفسك من أهل القبور» [الترمذي 2333 وصححه الألباني، وأصل الحديث في البخاري بدون لفظة (وعُدّ نفسك من أهل القبور)].
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا» [الترمذي 2333 وصححه الألباني].
الحذر من سرعة مرور العمر
ولما كان العمر يمضي سريعًا، كان لزامًا على العبد أن ينتبه لأيامه ولياليه، ويعمل دائبًا على المسارعة إلى الخيرات، والمنافسة في عمل الصالحات، ومن ذلك اغتنام الأجر في شهر الصيام، فقد أخرج ابن ماجه في سننه عن طلحة بن عبد الله أن رجلين من بَلِيٍّ قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعًا، فكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم توفي. قال طلحة: فرأيت في المنام: بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بها، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفِّي الآخِرَ منهما، ثم خرج،
فأذن للذي استشهد، ثم رجع إليَّ فقال: ارجع. فإنك لم تأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدَّثوه الحديث. فقال: «من أي ذلك تعجبون؟» فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ الرجلين اجتهادًا ثم استشهد، ودخل هذا الآخرُ الجنة قبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس قد مكث هذا بعده سنة؟» قالوا: بلى. قال: «وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟» قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض». [ابن ماجه 3925 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/345)].
وقد اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى أن يفرض علينا صيام رمضان كما فرضه على من قبلنا، غير أن هذه الأمة لما كانت أقصر الأمم أعمارًا عوضها الله عن ذلك بمضاعفة الأجر على الأعمال رحمةً بها، وإكرامًا لنبيها صلى الله عليه وسلم، وقد حباها في هذا الشهر الكريم بمنح عظيمة تترتب على اغتنام العبد لأيامه ولياليه، ومن هذه المنح ما يلي:
1- تحصيل التقوى التي هي خير زاد، قال الله تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » [البقرة:183]، أي: لعلكم تتقون بصومكم ربكم، وهكذا تبرز الغاية العظمى من الصوم، وهي التقوى، والصوم طريق موصل إليها.
2- بركات خاصة برمضان: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة». [البخاري 1898]. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر رمضان فُتحت أبواب السماء، وغُلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين». [البخاري 1899]، وفي لفظ لمسلم: «فتحت أبواب الرحمة». [مسلم 1079].
والحديث يدل على بركات خاصة من الله لهذه الأمة في شهر رمضان، حيث تُفتح فيه أبواب الرحمة، وأبواب الجنة، وأبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب النار، وتُسلسل الشياطين، وفي هذا تشجيع للصائمين وحثّ لهم على اغتنام مواسم الخيرات، والحديث الأول يدل على جواز قول: «رمضان» من غير إضافته إلى الشهر، وأما الحديث الذي فيه أنه اسم من أسماء الله تعالى فإنه لا يصح، وأسماء الله توقيفية، وفي الحديث دليل على وجود الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان وموجودتان الآن، ومن معتقد أهل السنة والجماعة أنهما لا تبيدان ولا تفنيان، وعلى أن الجنة لها أبواب، وقد دلَّ على ذلك القرآن والسنة.
3- مِنَح مخصوصة بالصيام في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام جُنّة – زاد في رواية مسلم إذا أصبح أحدكم يومًا صائمًا - فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم – مرتين – والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها». [البخاري 1894، ومسلم 1151].
وهذا الحديث قد اشتمل على كثير من المنح الربانية، ومنها: أن الصيام حصن ووقاية من النار. قال ابن العربي: «إنما كان الصوم جُنّة من النار لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات».
وعقّب ابن حجر – رحمه الله – على هذا القول بقوله: «فالحاصل أنه إذا كفَّ نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترًا له من النار في الدار الآخرة». [فتح الباري 4/104].
ومنها: أن على الصائم ألا يتكلم بكلام فاحش، أو يفعل شيئًا من أفعال أهل السفه والجهل كالصيام وغير ذلك، ومنها: أن رائحة فم الصائم المتغيرة بسبب الصيام أحب إلى الله من ريح المسك، وفي هذا ثناءٌ على الصائم ورضا بفعله، ومنها ما جاء في قوله تعالى: «الصيام لي وأنا أجزي به». وفي هذا مزية عظيمة للصيام، وأجر عظيم عليه من الكريم الرحمن.
ومن المعلوم أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر فحسب، بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله تعالى، ولذلك يتولى الله جزاءه بنفسه، وقد نقل ابن حجر – رحمه الله – عن البيضاوي أنه قال: «والسبب في اختصاص الصوم بهذه المزية أمران: أحدهما أن سائر العبادات مما يطلع العباد عليه، والصوم سر بين العبد وبين الله تعالى يفعله خالصًا ويعامله به طالبًا لرضاه، وإلى ذلك الإشارة بقوله: «فإنه لي». والآخر: أن سائر الحسنات راجعة إلى صرف المال أو استعمال البدن، والصوم يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقصان، وفيه الصبر على مضض الجوع والعطش وترك الشهوات، وإلى ذلك أشار بقوله: «يدع شهوته من أجلي». [فتح الباري: 4/110]، وعلى الصائم ألا يتضجر من رائحة فمه؛ لأنها أطيب عند الله من ريح المسك، كما عليه أن يصبر على الأذى.
4- المباعدة عن النيران ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام يومًا في سبيل الله بعَّدَ الله وجهه عن النار سبعين خريفًا». [البخاري 2840، ومسلم 1153].
وفي هذا أجر عظيم للصائم وفضل كبير ورحمة من الله له. قال النووي رحمه الله: «فيه فضيلة الصيام...، والخريف السنة، والمراد سبعين سنة». [شرح النووي على مسلم ج8/23]، وقال ابن حجر رحمه الله: «الخريف زمان معلوم من السنة، والمراد به هنا العام، وتخصيص الخريف بالذكر دون بقية الفصول – الصيف والشتاء والربيع – لأن الخريف أزكى الفصول لكونه يجنى فيه الثمار». [فتح الباري: 6/48].
5- الصيام لا مثل له
ففي سنن النسائي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، مرني بأمر ينفعني الله به، قال: «عليك بالصيام فإنه لا مِثْل له». [النسائي 2221 وصححه الألباني].
6- للصائمين باب من أبواب الجنة لا يدخل منه أحد غيرهم
فعن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد». [البخاري 896].
7- في رمضان ليلة خير من ألف شهر من قام فيها لله غفر له ما تقدم من ذنبه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه». [البخاري 1901].
8- رمضان لا ينقص أجره حتى ولو نقص عدده
ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شهران لا ينقصان، شهرا عيد: رمضان، وذو الحجة» [البخاري 1912، ومسلم 1089]. والمعنى: لا ينقصان أبدًا في الأجر وثواب العمل، وكان إسحاق بن راهويه يقول: «لا ينقصان في الفضيلة إن كانا تسعة وعشرين أو ثلاثين»، وقال البيهقي: «إنما خصهما بالذكر لتعلق حكم الصوم والحج بهما، وبه جزم النووي، وقال: إنه الصواب المعتمد». وعقب الحافظ ابن حجر على هذا بقوله: «والمعنى أن كل ما ورد عنهما من الفضائل والأحكام حاصل سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعًا وعشرين». [فتح الباري: 4/125، 126].
ومنح الله في رمضان لأهل الإيمان كثيرة، منها الجزاء الكبير للعمرة في رمضان، فالعمرة في رمضان تعدل ثواب الحج برفقة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله علي وسلم: «عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي» [البخاري 1863]. وعن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها «ما منعك أن تحجي معنا». قالت كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه لزوجها وابنها، وترك ناضحًا ننضح عليه قال: «فإذا كان رمضان اعتمري فيه، فإن عمرة في رمضان حجة» [البخاري 1863].
كما أن للجود والإحسان فضلًا عظيمًا في رمضان، فقد كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ؛ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ»[البخاري 3554].
والاعتكاف عمل جليل من أعمال البر في شهر رمضان، وقد سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان سنة الاعتكاف في المساجد، وقد داوم عليها صلى الله عليه وسلم حتى موته، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه بعده. [متفق عليه].
وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وعليه فهو شهر يستحق العناية به، والمسارعة والمنافسة في مرضات الله فيه، أسأل الله أن يوفقنا لحسن صيامه وقيامه، وأن يتقبل منا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

1 التعليقات:

غير معرف يقول...

جزاك الله عنا خيرا يا دكتور عبدالله

إرسال تعليق

 
تعريب وتطوير مدونة الفوتوشوب للعرب | تعديل التصميم : ابوعبدالله عبداللطيف بن أحمد المصرى | 01148521721 |
جمعية أنصار السنة المحمدية .. فرع الخصوص © 2011 | عودة الى الاعلى
Designed by Chica Blogger